الفكر الإسلامي

 

عناية الإسلام بالحقوق

(2/4)

 

بقلم :  الأستاذ الدكتور حسن محمد باجودة

 

(ج) حقوق النساء :

     ما أشد عناية الإسلام بالنساء وما أكثر الآيات الكريمات والأحاديث النبوية الشريفة بهن . وسبق أن تحدثنا عن العناية بالمرأة من زاوية كونها والدة وبنتًا ، ونود أن نتحدث عنها الآن من زاوية كونها زوجة . فإن هذه الزوجة هي والدة البنت – وكذلك الولد – مستقبلاً ، وهذا معناه أنَّ الحديث عن الزوجة يقتضي الحديث عن الزوج بل وعن العديد من أفراد الأسرة المسلمة التي عني بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة عناية بالغة .

     وبشأن اختيار الزوجة ذات الدين إذا كانت سنة المصطفى المبينة للقرآن الكريم قد أمرت بتفضيل ذات الدين ووضعتها في المرتبة الأولى فإن هذه المنزلة الرفيعة للمرأة ذات الدين يصح أن نفهمها ضمنًا من هاتين الآيتين الكريمتين من سورة الأحزاب(1) قال تعالى : ﴿يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا وَزِيْنَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيْلاً . وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُوْلَه وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيْمًا﴾ إن رب العزة يأمر المصطفى الذي فتح الله تعالى له خزائن الأرض بعد غزوة الأحزاب وبني قريظة أن يقول لأزواجه رضوان الله تعالى عليهن أجمعين وقد سألنه المزيد من النفقة والأخذ بنصيب أوفر من الحياة الدنيا بأنهن إن كن يردن الحياة الدنيا وزينتها فإن لهن ذلك وسوف يعطيهن المصطفى ما يتمتعن به مما أشار إليه قوله تعالى في سورة البقرة(2): ﴿وَمَتِّعُوْهُنَّ عَلَى الْمُوْسِعِ قَدَرُه وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُه مَتَاعًا بِالْمَعْرُوْفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِيْنَ﴾ وقوله تعالى(3): ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوْفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِيْنَ﴾ وسوف يسرحن ويطلقهن سراحًا وطلاقًا جميلين وفق سنة الإسلام الجميلة في الطلاق أبغض الحلال إلى الله تعالى . والدليل على أن التسريح بمعنى الطلاق قول الحق جل وعلا(4): ﴿اَلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوْفٍ أَوْ تَسْرِيْحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أما إن أراد زوجات المصطفى الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله سبحانه وتعالى أعد للمحسنات منهن اجرًا عظيمًا . والمعروف أن كل زوجات المصطفى اخترن الله ورسوله والدار الآخرة رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن وجعل الجنة مثواهن(5) ولما كان امهات المؤمنين الأسوة الحسنة للنساء المؤمنات فإن الزوجات الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله يجد منهن اللواتي قدر الله تعالى رزق أزواجهن العزاء في هاتين الآيتين الكريمتين كما يجدن الأسوة الحسنة في أمهات المؤمنين اللآتي أردن الله ورسوله والدار الآخرة التي هي خير من الأولى بنص القرآن الكريم .

     وكي يقوم النساء بأدوارهن المنوطة بهن خير قيام من كونهن زوجات أو محرمات على التأبيد أو إلى حين وضع الشارع الحكيم الضوابط والأحكام التي ترضى كل عقل وتشبع كل نفس . ومن أمور الجاهلية التي قضى عليها الإسلام قضاء مبرمًا نكاح المقت ، بمعنى البغض الشديد لمن تراه تعاطى القبيح(6) ونكاح المقت أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها(7) وفي نكاح المقت هذا نزل قول الحق جل وعلا(8): ﴿وَلاَ تَنْكِحُوْا مَانَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَاقَدْ سَلَفَ . إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً وَّمَقْتًا وَسَآءَ سَبِيْلاً﴾ وحينما نقارن بين آية النهي عن نكاح المقت وبين آية النهي عن الزنا في قول الحق جل وعلا(9): ﴿وَلاَ تَقْرَبُوْا الزِّنـٰـى إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً وَّسَآءَ سَبِيْلاً﴾ نتبين أن نكاح المقت كان حظه من النهي أكبر من حظ النهي عن الزنا بسبب زيادة القول : «وَمَقْتًا» (10).

     وإن نص الآية الكريمة على إحدى المحرمات من النساء على التأبيد توطئة للحديث بعد ذلك عن المحرمات من النساء . قال تعالى(11): ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللآتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللآتِيْ فِيْ حُجُوْرِكُمْ مِنْ نِّسَائِكُمُ اللآتِيْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَّمْ تَكُوْنُوْا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلآَئِلُ اَبْنَائِكُمُ الَّذِيْنَ مِنْ أَصْلاَبِكُمُ وَأَنْ تَجْمَعُوْا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ. إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوْرًا رَّحِيْمًا . وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَامَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾(12) عن ابن عباس قال : يحرم من النسب سبع ومن الصهر سبع ثم قرأ : ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ اُمَّهَاتُكُمْ﴾ الي قوله : ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾(13).

     ولا يستطيع الإنسان إلا أن يقف بخشوع أمام النظم المعجز الذي يرضى العقل بفصوص حكم المعاني ويشبع النفس بجميل تركيب المباني . ونستطيع أن نوجز الحديث عن ترتيب المحرمات بأن النظم قدم السبع المحرمات نسبًا لأنهن أولى بالتقديم على السبع المحرمات صهرًا . ووراء ذلك قدم السياق في الذكر الأولى بالتحريم فالأولى . ولا تخفى هذه الحقيقة على كل متأمل لترتيب المحرمات الأربع عشرة . والمحصنات من النساء هن ذوات الأزواج وتستثني الآية الكريمة ماملكت الأيمان . عن ابن عباس : كل امرأة لها زوج فهي عليك حرام إلاّ أمة ملكتها ولها زوج بأرض الحرب فهي لك حلال إذا استبرأتها(14).

     ومن البين الحكمة من تحريم الزواج بهذه الفئات . وهذه الحكمة تجلت في ترتيب المحرمات حيث إن السياق إذا كان قد بدأ بالأشد قربًا وهن الأمهات فإنه أخذ يتحول باستمرار إلى التالية في القرب ، بمعنى أن السياق يتجه باستمرار نحو البعيدات من جهة النسب أولاً ومن جهة الصهر آخرًا . وبعد أن شمل السياق كل المحرمات وفق هذا النسق البديع جاء فيه القول(15): ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَاوَرَآءَ ذٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوْا بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِيْنَ غَيْرَ مُسَافِحِيْنَ﴾ وإن النساء وراء المحرمات هن اللآتي يتحقق بواسطتهن الاستمتاع الذي أشار إليه بعد ذلك القول(16): ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِه مِنْهُنَّ فَآتُوْهُنَّ أُجَوْرَهُنّ فَرِيْضَةً﴾ والمراد بالأجور المهور(17) والحقيقة أن القول في هذه الآية الكريمة الرابعة والعشرين من سورة النساء: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِه مِنْهُنَّ فَآتُوْهُنَّ أُجُوْرَهُنَّ فَرِيْضَةً . وَلاَجُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيْمَا تَرَاضَـيْتُمْ بِه مِنْ بَعْدِ الْفَرِيْضَةِ﴾ يفسره قول الحق جل وعلا في الآية الكريمة الرابعة من سورة النساء: ﴿وَآتُوْا النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً . فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوْهُ هَنِيْئًا مَّرِيْئًا﴾ إن رب العزة يأمر الأزواج بأن يعطوا زوجاتهم صدقاتهن ، بمعنى مهورهن ، وواحد الصدقات صدُقة بضم الدال(18) نحلة وعن طيب نفس من الأزواج من غير تنازع(19) وبعد ثبوت المهور للزوجات فإن طبن للأزواج عن شيء من المهور نفسًا فتنازلن عن بعضها أو عنها كلها للأزواج فإن من حق الأزواج أن يأكلوا هنيئًا مريئًا ما طابت به لهم زوجاتهم منه نفسًا ، ولا جناح عليكم أيها الأزواج ولا حرج فيما تراضيتم أنتم وهن به من بعد فرض المهور لهن(20).

     وقد أباح الإسلام للرجل أن يتزوج حتى أربع نسوة شريطة العدل بين الزوجات . قال تعالى(21): ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوْا فِيْ الْيَتَامـٰـى فَانْكِحُوْا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنـٰـى وَثـُلاَثَ وَرُبَاعَ . فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوْا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ اَيْمَانُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنـٰـى أَلاَّ تَعُوْلُوْا﴾ وهذه الآية الكريمة كما يبدو من سبب النزول ذات علاقة بالآية الكريمة السابعة والعشرين بعد المائة من سورة النساء . قال تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُوْنَكَ فيْ النِّسَآءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيْكُمْ فِيْهِنَّ وَمَا يُتْلـٰـى عَلَيْكُمْ فِيْ الْكِتَابِ فِيْ يَتَامَى النِّسَآء اللآتِيْ لاَ تُؤْتُوْنَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُوْنَ أَنْ تَنْكِحُوْهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِيْنَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُوْمُوْا لِلْيَتَامـٰـى بِالْقِسْطِ . وَمَا تَفْعَلُوْا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِه عَلِيْمًا﴾ جاء في سبب النزول في البخاري(22) ومسلم(23) واللفظ للبخاري (عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوْا فِيْ الْيَتَامـٰـى﴾ فقالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تُشْركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنُهُو عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق ، فأمروا أن ينكحوا ماطاب لهم من النساء سواهن . قال عروة قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية فأنزل الله ﴿وَيَسْتَفْتُوْنَكَ فِيْ النِّسَآءِ﴾ قالت عائشة : وقول الله تعالى في آية أخرى : ﴿وَتَرْغَبُوْنَ أَنْ تَنْكِحُوْهُنَّ﴾ رغبة إحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال . قالت فَنُهُوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إن كن قليلات المال والجمال» .

     من سبب النزول يتبين أن الآية الكريمة الأولى في اليتيمة التي يرغب وليها فيها لمالها وجمالها وأن الآية الكريمة الأخرى في اليتيمة التي يرغب وليها عنها لقلة مالها ودمامتها . ومعنى الآية الكريمة الأولى : وإن خفتم أيها الأوصياء والأولياء في يتامى النساء اللآتي ترغبون في نكاحهن وخشيتم أن تظلموهن ولا تعطوهن مهر المثل فتجاوزوهن وانكحوا ماطاب لكم من النساء الأخريات وحلَّ من الواحدة حتى الأربع . فإن خفتم ألا تعدلوا فانكحوا واحدة أو ماملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات : ﴿ذٰلِكَ اَدْنـٰـى أَلاَّ تَعُوْلُوْا﴾ ذلك الاكتفاء بواحدة أدنى ألا تعولوا وأقرب ألا تجوروا ولا تميلوا(24) عن الحق(25) ومعنى الآية الكريمة الأخرى: ويستفتونك أيها الرسول الكريم والنبي العظيم في النساء . قل الله يفتيكم فيهن وفيما يُتْلـٰـى عليكم في الكتاب ، يعني في أول هذه السورة وذلك قوله : ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوْا فِيْ الْيَتَامـٰـى فَانْكِحُوْا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾(26) قل الله يفتيكم فيهن وفيما يُتْلـٰـى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللآتي لاتؤتونهن مهورهن وحقوقهن التي فرضها الله تعالى في كتابه العزيز، واللآتي لا يرغب الأولياء في نكاحهن والزواج بهن لدمامتهن، وفي المستضعفين من الولدان(27) وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط ، أي بالعدل(28) بأن يؤتوهم حقوقهم من الميراث لأنهم كانوا لا يورثون الصغار من أولاد الميت(29) وماتفعلوا أيها الناس وأيها الأولياء والأوصياء من خير فإن الله تعالى كان به عليمًا وسوف يجازيكم عليه إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر .

     ويقرر القرآن الكريم أن الأزواج لن يستطيعوا أن يكونوا عادلين بشأن الزوجات ولو حرصوا وبخاصة فيما يتعلق بالميل القلبي فعليهم ألا يميلوا كل الميل إلى الزوجة التي يميل إليها القلب فيذروا الزوجة الأخرى كالمعلقة وكالمرأة التي لا هي ذات زوج ولا هي أيّم(30) قال تعالى(31): ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيْعُوْا أَنْ تَعْدِلُوْا بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيْلُوْا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوْهَا كَالْمُعَلَّقَةِ . وَإنْ تُصْلِحُوْا وَتَتَّقُوْا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوْرًا رَّحِيْمًا﴾ عن عائشة قالت : كان رسول الله يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ، يعني القلب(32) وعن أبي هريرة عن النبي قال : من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل(33).

     وما العمل حينما تخاف المرأة من زوجها نشوزًا واستعلاء بنفسه عنها إلى غيرها أثرة عليها(34) أو إعراضًا عنها ؟ الجواب في قول الحق جل وعلا(35): ﴿وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوْزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُّصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ . وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ . وَإنْ تُحْسِنُوْا وَتَتَّقُوْا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُوْنَ خَبِيْرًا﴾ جاء في سبب النزول في الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : لما كبرت سودة بنت زمعة(36) (وفرقت أن يفارقها رسول الله ) وهبت يومها لعائشة . فكان النبي يقسم لها بيوم سودة(37) قالت عائشة : ففي ذلك أنزل الله : ﴿وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوْزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾(38) وقد ماتت سودة رضي الله تعالى عنها وهي من أزواجه (39) ومعنى الآية الكريمة: وإن امرأة خافت من زوجها تعاليًا عليها أو إعراضًا عنها فلا جناح عليهما ولا إثم أن يصلحا بينهما صلحًا بأن تتنازل الزوجة عن كل حقها أو بعضه وبأن يبقيها الزوج في عصمته «والصلح خير» دائمًا وأبدًا وبخاصة بين الزوجين . ومعنى الشح البخل مع الحرص(40) وأحضر يتعدى إلى مفعولين اثنين كقولهم: أحضرت زيدا الطعام، والمفعول الأول الأنفس(41) وهو نائب فاعل مرفوع . والشح مفعول به منصوب(42) يقول أبو حيان(43): (هذا من باب المبالغة . جعل الشح كأنه شيء معد في مكان وأُحْضِرَتِ الأنفس وسيقت إليه ، ولم يأت وأُحْضِرَ الشح الأنفس فيكون مسوقاً إلى الأنفس ، بل الأنفس سيقت إليه لكون الشح مجبولاً عليه الإنسان ومركوزًا في طبيعته) وتحث الآية الكريمة على الإحسان بمعنى صحة العمل وصوابه ، وعلى التقوى بمعنى إخلاص العمل لله تعالى . إن الله سبحانه وتعالى خبير بما نعمل جميعًا .

     وأحيانًا بكون النشوز من المرأة ، وأحيانًا يكون من المرأة والرجل معًا . وفي هذه المعاني جاء قول الحق جل وعلا(44) ﴿اَلرِّجَالُ قَوَّامُوْنَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَّ بِمَآ أَنْفَقُوْا مِنْ اَمْوَالِهِمْ . فَارِّجَالُ قَوَّامُوْنَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَّ بِمَآ أَنْفَقُوْا مِنْ اَمْوَالِهِمْ .لصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ . وَاللآتِيْ تَخَافُوْنَ نُشُوْزَهُنَّ فَعِظُوْهُنَّ وَاهْجُرُوْهُنَّ فِيْ الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوْهُنَّ . فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوْا عَلَيْهِنَّ سَبِيْلاً . اِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيْرًا . وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوْا حَكَمًا مِنْ أَهْلِه وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيْدَآ إِصْلاَحًا يُّوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا . إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيْمًا خَبِيْرًا﴾ .

     الآية الكريمة الأولى تتحدث عن القوامة فتقرر أن الرجال قوامون على النساء وأن للأزواج القوامة على الزوجات . بمعنى أن الرجل قيم على المرأة ، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت(45) وبمعنى أن الكلمة للرجل حينما تختلف وجهتا نظر الزوج وزوجه بشأن توجيه دفة الأسرة المسلمة . وتعين الآية الكريمة السببين في كون القوامة للرجال . أما السبب الأول ففي قوله تعالى : ﴿بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ بمعنى أن الرجل هو الذي هيأه الله سبحانه وتعالى من النواحي الجسمانية والعقلية والعاطفية كي يتصدى للجانب الخشن من الحياة العملية منها وذلك في مقابل ماهيأ الله سبحانه وتعالى له المرأة كي تتصدى للجانب الناعم من الحياة زوجًا حنونًا وأمًا رءومًا وملكة في مملكتها الصغيرة أعني المنزل فقد خصها الله تعالى بمجموعة من الخصائص ليست للرجل ، منها رقة العاطفة وفيض الشعور وفرط الحنان . هذا إلرة أعني المنزل فقد خصها الله تعالى بمجموعة من الخصائص ليست للرجل ، منها رقة العاطفة وفيض الشعور وفرط الحنان . ة في مملكتهاى ما لا يستطيع أن يقوم به سواها من حمل وإنجاب وإرضاع ورعاية شؤون المنزل ومصلحة الزوج وتربية الصغار، وما إلى ذلك من أمور مرتبطة بالمرأة . إن كل هذه الأمور من متعلقات الجانب الناعم من الحياة الذي يحتاج إلى كمية هائلة من العاطفة أو القوة الدافعة . وإن المرأة هي المهيأة للقيام بهذه المهمة وذلك في مقابل قيام الرجل بالأمور الأخرى التي تحتاج إلى قوة بدنية ، وطاقة جسمانية ، واستعداد للتعامل مع الجانب الخشن من الحياة ، وقوة كابحة يحدث بسببها التوازن مع القوة الدافعة للمرأة . إن القوة الدافعة إنما كانت من نصيب النساء بسبب قوة عاطفة المرأة وفرط حنانها ، وإن القوة الكابحة إنما كانت من نصيب الرجال بسبب قدرة الرجل على ضبط عواطفه وكبح جماح انفعالاته بأكثر من المرأة . وحينما نتأمل مجموع نصيب كل من الرجل والمرأة من القوتين معا الدافعة والكابحة نتبين أن الجنسين متساويان . ففي مقابل حظ المرأة الموفور من اندفاع العاطفة حظ الرجل الموفور من القدرة على ضبط العاطفة . ولا يمكن لأي مركبة أن تسير بالقوة الدافعة وحدها ، ولا بالقوة الكابحة وحدها ، بل لابد من تعاون القوتين وعملهما معًا . ولما كان الحديث هنا عن القوامة أي عن القوة الكابحة وكان حظ الرجل موفورًا منها كانت القوامة من حقه بأمر الله تعالى الذي خلق الإنسان ويعلم ماتوسوس به نفسه وجعل الرجل مهيئًا للقيام بهذه المهمة بسبب تفضيل الله تعالى جنس الرجل على جنس المرأة في قوة الاحتمال والقدرة على العمل والكدح والكبح للعواطف ، وذلك في مقابل تفضيل الله تعالى جنس المرأة على جنس الرجل في تدفق المشاعر وفرط العواطف . أما السبب الثاني في كون القوامة للرجل فقد جاء في قول الحق جل وعلا : ﴿وَبِمَا أَنْفَقُوْا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ إن الزوج هو الذي يدفع المهر لزوجه وهو المسؤول عن النفقة على الأسرة فقد هيأه الله سبحانه وتعالى جسمانيًا وعقليًا ونفسيًا كي يكدح وراء لقمة العيش وينفق على أسرته . وبشأن كدح الرجل في سبيل إيجاد مهر الزوجة يكفي أن نعرف أن موسى عليه السلام قد دفع مهرًا لزوجه العمل عشر سنوات لدى والد زوجته شعيب عليه السلام قال تعالى(46): ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِيْنُ . قَال إِنِّيْ أُرِيْدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجَرَنِيْ ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيْدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ . سَتَجِدُنِيْ إِنْ شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِيْنَ . قَالَ ذٰلِكَ بَيْنِيْ وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلَى مَانَقُوْلُ وَكِيْلٌ﴾ إن الزوجة الغالية تستحق أن يدفع الزوج عشر سنوات من عمره وزهرة شبابه مهرًا لها . ومن الذي يدفع هذا المهر؟ إنه الزوج المثالي : «القوي الأمين» ومن الطبيعي أن توظف هذه القوة في القوامة . قال تعالى: ﴿اَلرِّجَالُ قَوَّامُوْنَ عَلَى النِّسَآءِ﴾.

     وأي نساء تتحدث هذه الآية الكريمة من سورة النساء عنهن وتقول لهن إن الله تعالى جعل القوامة لأزواجهن عليهن بسبب تهيئة الله تعالى الرجل للقيام بهذه المهمة . مهمة قيادة الأسرة في خوضها غمار الحياة واتجاهها إلى الله تعالى؟ إنهن اللاتي يؤمن بالله تعالى ربًا ، وبمحمد رسولاً، وبالقرآن الكريم دستورًا ، وقد قال عز من قائل(47): ﴿وَمَا كَان لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُوْلُه أَمْرًا أَنْ يَّكُوْنَ لَهُمُ الْخِيَرةْ مِنْ أَمْرِهِمْ . وَمَنْ يَّعْصِ اللهَ وَرَسُوْلَه فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيْنًا﴾ وهذه هي صفات المؤمنات في الآية الكريمة : ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ﴾ إن هؤلاء النساء صالحات يعرفن حق الله تعالى عليهن . وإن هؤلاء النساء قانتات مطيعات(48) عن قتادة : قانتات أي مطيعات لله ولأزواجهن(49) وليست طاعة الزوجات لأزواجهن إلا بأمر الله تعالى وأمر رسوله . عن أبي هريرة عن النبي قال : لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها(50) من عظم حقه عليها(51) وإن هؤلاء النساء حافظات لغيب أزواجهن في أنفسهن وأموالهم وأولادهم وأقوالهم(52) بحفظ الله إياهن إذ صيرهن كذلك(53) عن أبي هريرة قال قال رسول الله : خير النساء امرأة : إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك . قال : ثم قرأ رسول الله : ﴿اَلرِّجَالُ قَوَّامُوْنَ عَلَى النِّسَآءِ﴾. الآية(54) وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله : أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة(55) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله : أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا . وخياركم خياركم لنسائهم خلقًا(56).

*  *  *

الهوامش :

(1)          الآية 28 و 29 .

(2)          الآية 236 .

(3)          سورة البقرة 241 .

(4)          سورة البقرة 229 .

(5)          درسنا الآيتين الكريمتين في : تأملات في سورة الأحزاب 264-277 .

(6)          مفردات الراغب الاصفهاني : «مقت» 470.

(7)          تفسير القرطبي 1674 .

(8)          سورة النساء 22 .

(9)          سورة الإسراء 32 .

(10)      درسنا الآية الكريمة في : تأملات في سورة النساء (مخطوط)

(11)      سورة النساء 23 و 24 .

(12)      درسنا الآيتين الكريمتين في: تأملات في سورة النساء «مخطوط».

(13)      تفسير الطبري 4/220 وتفسير ابن كثير 1/469 .

(14)      تفسير الطبري 5/2 .

(15)      سورة النساء 24 .

(16)      سورة النساء 24 .

(17)      أنظر تفسير الطبري 5/9 والجلالين وتفسير القرطبي 1593.

(18)      تفسير القرطبي 1593 . طبعة الشعب القاهرة .

(19)      تفسير القرطبي 1594 .

(20)      انظر هنا مثلا تفسير الطبري 5/9 و 10 .

(21)      سورة النساء 3 .

(22)      صحصح البخاري 6/53 .

(23)      صحيح مسلم 18/154-156.

(24)      تفسير الطبري 4/160 .

(25)      تفسير القرطبي 1590. طبعة الشعب القاهرة .

(26)      تفسير الطبري 5/193 .

(27)      المرجع السابق 5/195 .

(28)      المرجع السابق 5/195 و 196 .

(29)      المرجع السابق 5/195 .

(30)      المرجع السابق 5/201 وأنظر تفسير ابن كثير 1/564.

(31)      سورة النساء 129 .

(32)      تفسير ابن كثير 1/564 وتفسير الطبري 5/203 وسنن أبي داود 2/242 حديث رقم 2134.

(33)      سنن أبي داود 2/242 حديث رقم 2133 وتفسير ابن كثير 1/564 وتفسير الطبري 5/203 .

(34)      تفسير الطبري 5/196.

(35)      سورة النساء 28 .

(36)      زمعة بسكون الميم وفتحها كما في القاموس ومابين معقوفين زيادة من سنن أبي داود 2/243 حديث رقم 2135. (وفرقت) أي خافت .

(37)      تفسير ابن كثير 1/562 وأنظر فتح الباري 9/312 حديث رقم 5212 .

(38)      تفسير ابن كثير 1/562 وأنظر صحيح البخاري 6/62 وأسباب النزول 215 .

(39)      تفسير القرطبي 1974 .

(40)      مفردات الراغب الأصفهاني : «شح» 256 .

(41)      التبيان في إعراب القرآن للعكبري 1/396.

(42)      الجدول في إعراب القرآن وصرفه 3/160 .

(43)      البحر المحيط 3/363 .

(44)      سورة النساء 34، 35 .

(45)      تفسير ابن كثير 1/491 .

(46)      سورة القصص 26-28 .

(47)      سورة الأحزاب 36 .

(48)      تفسير الطبري 5/38 .

(49)      المصدر السابق 5/38 .

(50)      سنن الترمذي 3/465 حديث رقم 1159 .

(51)      زيادة في تفسير ابن كثير 1/492 .

(52)      المصدر السابق 1/491 .

(53)      تفسير الطبري 5/39 .

(54)      المصدر السابق 5/39 .

(55)      سنن الترمذي 3/466 حديث رقم 1162.

(56)      سنن الترمذي 3/466 حديث رقم 1162 .

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الأولي 1426هـ = يونيو – يوليو 2005م ، العـدد : 5 ، السنـة : 29.